قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: { عَليكَ بطُولِ الصّمتِ إلا مِن خَير فإنّهُ مَطْرَدَةٌ للشّيطَانِ عَنكَ وعَونٌ لَكَ على أَمرِ دِيْنِك}رواه الطبراني والبيهقي. يُروَى أنّ سيّدَنا سُلَيمانَ عليهِ السّلام قال: { إنْ كانَ الكَلامُ مِنْ فِضّةٍ فالسُّكوتُ مِنْ ذَهَبٍ }.هذا يُروَى عن سيّدِنا سُليمَانَ ليسَ عن سيّدِنا محمّد.
عُلمَاءُ التّوحيدِ يقُولونَ:" التّوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غَيرِ مُشْبِهٍ للذّواتِ ولا مُعَطَّلٍ عنِ الصِّفَاتِ"
الذّاتُ بالنّسبةِ للمَخلُوقِ الحَجْمُ. المخلُوقُ ذاتٌ، حَجْمٌ. ثمّ هَذا الحجمُ إمّا كثِيفٌ وإمّا لطِيفٌ. الذّاتُ بالنسبةِ للمَخلُوقَاتِ هَذانِ، إمّا حَجمٌ كثيفٌ وإمّا حَجمٌ لطِيفٌ.
أمّا الصِّفةُ فهوَ ما يقُومُ في الحَجم، بالنّسبةِ للمَخلُوقِ هذا الحجمُ اللطيفُ والحَجمُ الكثيفُ لهُ صِفاتٌ كالصِّغَر والكِبَرِ واللَّونِ والحَركةِ والسُّكون. ذاتُ المخلُوقِ إنْ كانَ كثِيفًا وإن كانَ لطِيفًا لهُ هذِه الصّفات وغيرُها. يتَغيَّرُ مِن حَالٍ إلى حَالٍ، لأنّهُ حاَدثٌ لأنّه وُجِدَ بَعدَ أن كانَ مَعدُومًا.
ومِن جملَةِ صِفاتِ الحَجمِ الكثيفِ أو اللطِيف سِوَى الحَركَةِ والسّكُون، اللونُ والحَرارةُ والبُرودَةُ. الإنسانُ ذَات،ٌ حَجْمٌ كثِيفٌ لهُ صِفاتٌ حَركَاتٌ ولَونٌ ونحوُ ذلكَ.
والنُّورُ أيضًا ذاتٌ، أي حَجمٌ لطِيفٌ لهُ صِفَاتٌ. لأنَّهُ قَد يَكُونُ لَونُه أَبيضَ،قَد يَكونُ لَونُهُ أَحمرَ قَد يكُونُ لَونُه أَصفَرَ أو أخضَرَ.
بَعضُ النّاسِ الذينَ قلُوبهُم نَيِّرَةٌ لمّا يَزُورُونَ الرّسولَ في المدينةِ يَرَونَ في الفَضَاءِ أَنوارًا مُتلاطِمةً نُورًا أخضَر ونُورًا أبيضَ ونُورًا أَصفَرَ ونُورًا أحمَرَ.
ثمّ الحَجمُ اللطِيفُ كالضّوءِ قَد يكونُ حَجمُه، مِساحَتُه قَصِيرَةً وقَد يَكُونُ مِساحَتُه واسِعةً. نُورُ الشّمسِ مِساحَتُه واسِعةً، نُورُ الكَهرباء مِساحَتُه أقَلّ، نُورُ الشّمعَةِ مِسَاحَتُهُ أقَلّ. هَذِه مِن صِفاتِ الحَجْم اللّطِيف.
أمّا اللهُ تَعالى ذاتُه ليسَ حَجمًا لطِيفًا ولا حَجمًا كثِيفًا. لا يمكِنُ تَصَوُّرُه في النّفسِ، لأنّنا تَعوَّدْنَا الحَجمَ الكَثيفَ والحَجمَ اللّطِيف. فنَتصَوّرُ الحجمَ اللطِيفَ ونتصَوَّرُ الحجمَ الكثِيفَ.لكنّ اللهَ تبَاركَ وتَعالى لكَونِه ذاتًا غَيرَ حَجمٍ لطِيف وغَيرَ حَجمٍ كثِيفٍ نؤمِنُ بأنّهُ مَوجُودٌ وإنْ كُنّا لا نَستَطِيعُ أن نتصَوّرَه.
الحجمُ الصّغيرُ يُتصَوَّرُ. الحَجمُ الكبِيرُ أيضًا يُتَصوَّرُ. أمّا الذّاتُ الذي لا يُوصَفُ بالكِبَرِ ولا بالصِّغَر لا يُمكِنُنَا أنْ نتَصَوَّرَه بأَذهَانِنا. لكنْ يجِبُ عَلينَا أن نؤمِنَ بوجُودِ ذاتٍ ليسَ حَجمًا لطِيفًا وليسَ حجمًا كثِيفًا. ليسَ حَجمًا كبِيرًا ولا صغيرًا. لذلكَ قالَ عُلمَاءُ التّوحيدِ: {التّوحِيدُ إثْباتُ ذَاتٍ غَيرِ مُشْبِهٍ للذّواتِ ولا مُعَطَّلٍ عنِ الصِّفَاتِ}.
الوهَّابيةُ يُريدُونَ أن يَكونَ الله جِسمًا ويَعتقدونَ أنّه حَجمٌ كَبِيرٌ قَاعدٌ علَى العَرشِ. هؤلاءِ مَا عَرفُوا اللهَ. ولا يَعبُدونَ اللهَ. يَعبُدونَ شَيئًا تخَيَّلُوه حَجمًا كبِيرًا قَاعدًا على العَرشِ ولا وجُودَ لهُ. يَعبُدونَ شَيئًا مَوهُومًا لا وُجودَ لهُ.
فَوقَ العَرشِ لا يُوجَدُ إلا كتابٌ، كَتَبَ اللهُ فيهِ{ إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي} مَعناهُ الأشياءُ التي أُحِبُّهَا أَكثَرُ منَ الأشياءِ التي أكرَهُهَا. الملائكةُ كُلُّهُم أولياءُ اللهُ وهُم أكثَرُ خَلقِ اللهِ مِن حَيثُ العدد، الملائكة أكثر كلهم يحبّهم الله. أمّا البشَرُ والِجنُّ فِيهِم الكُفّارُ وفِيهِم المؤمِنُونَ، والكُفّارُ فِيهِم أكثَر.الِجنّ الشّياطِين أكثَرُ مِنَ المسلِمينَ مِنهُم. والإنسُ كذلكَ أكثرهم كفار، أكثَرُ الجنِّ وأكثَرُ البشَرِ اللهُ تَعالى يَكرَهُهم. وأَقَلُّهُم يُحِبُّهُم اللهُ وهُم المؤمنون.
الكتابُ الذي فوقَ العَرشِ مَكتُوبٌ فيه هَذا،. والملائكةُ الذينَ هُناكَ يَطُوفُونَ حَولَ العَرشِ كمَا نَطُوفُ بالكَعبَةِ.
فلا تصِحُّ مَعرفَةُ اللهِ معَ اعتقَادِ أنّه حَجمٌ كبِيرٌ أو حَجمٌ صَغيرٌ. لا يكونُ عَرفَ اللهَ مَن اعتقَد أنّ اللهَ حَجمٌ كَبيرٌ أو حَجمٌ صَغيرٌ لا يكونُ عَارفًا باللهِ من اعتقَدَ أنّ اللهَ حَجمٌ. إن اعتَقدَه حَجمًا كَبيرًا وإن اعتقَدَه حَجمًا وسَطًا أو حَجمًا صَغيرًا فهوَ غَيرُ عَارفٍ باللهِ فهوَ جَاهِلٌ بخَالقِه.
وهذا معنى قولِ سيّدِنا عليّ رضيَ الله عنه: { مَن زَعَم أنّ إلهنَا محدُودٌ فقَد جَهِلَ الخَالِقَ المعبُود}. كلُّ شَىءٍ لهُ حَجمٌ يقالُ لهُ محدُودٌ. حَبّةُ الخَردَلِ لها حَدّ، حَجمٌ صَغيرٌ. والعَرشُ لهُ حَدّ، حَجمٌ كبيرٌ. وكلاهما محدودٌ. يقولُ سيّدُنا عليٌّ مَن اعتقَدَ أنّ اللهَ حَجمٌ، ما عرَفَه.
وكلُّ هذا التنبِيه الذي ذُكِرَ هنا داخلٌ تحتَ هذِه الآيةِ:{ لَيسَ كمِثلِه شَىء}. إنْ قالَ لكُم الوهّابيّ مِن أَينَ أَتَيتُم بقَولِكُم أنّ اللهَ ليسَ حَجمًا كثِيفًا ولا حَجمًا لطِيفًا ولا هوَ حَجمٌ كبِيرٌ ولا هو حجمٌ صَغير؟
فقولُوا له هذه الآيةُ معناها هذا، { ليسَ كمِثلِه شَىءٌ وهوَ السّميعُ البصِير}.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا فِكْرَةَ في الرَّبِّ". رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الأَنْصَارِيِ، مَعْنَاهُ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ لا تُطْلَبُ بِالتَّصَوُّرِ وَلا بِالتَّوَهُّمِ لأَنَّ حُكْمَ الْوَهْمِ يُؤَدِّي إِلى الْغَلَطِ. الوَهَابِيَةُ المُشَبِهَة المُجَسِمةَ مُصيبَتُهُم أَنَّهُمْ لا يَقْبَلونَ أَنْ يَعْتَقِدُوا بِوجُودِ اللهِ تعالى دُونَ أَنْ يَتَصَوَّرُوهُ، يَقُولُونَ كَيْفَ نَعتَقِدُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ دُونَ أَنْ نَتَصَوَّرَهُ؟ هَؤُلاءِ يُقالُ لَهُمْ اللهُ تباركَ وتعالى لا يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّصوُّرِ، لأَنَّ اللهَ لَيْسَ شَيئًا يُتَصَوَّرُ، لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُصَوِّرٍ صَوَّرَهُ عَلَى شَكْلٍ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ اللهُ تعالى الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَلا خَالِقَ وَلا مُصَوِّرَ لَهُ، فَالْمُتَصَوَّرُ مَخْلُوقٌ، وَالْخَاطِرُ مَخْلُوقٌ، وَالتَّفَكُّرُ مَخْلُوقٌ، وَكُلُّ مَا يَتَصَوَّرُهُ الإنْسَانُ بِقَلْبِهِ مِنْ صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ لأَشْيَاءَ رَآهَا أَوْ لَمْ يَرَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ، الْقَمَرُ رَأيْتَهُ فَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ فَتَصَوُّرُكَ مَخْلُوقٌ لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ وَهُوَ الْقَمَرُ مَخْلُوقٌ، وَالْعَرْشُ لَمْ تَرَهُ فَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ فَتَصَوُّرُكَ مَخْلُوقٌ لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ وَهُوَ الْعَرْشُ مَخْلُوقٌ. أَمَّا اللهُ تعالى فَلَيْسَ مَخْلُوقًا، لِذَلِكَ مَهْمَا أَتْعَبَ الإنْسَانُ فِكْرَهُ لِيتَصَوَّرَ اللهَ بِزَعْمِهِ فَلَنْ يَصِلَ إِلى نَتِيجَةٍ صَحِيحَةٍ، لأَنَّهُ لا صُورَةَ لَهُ فَكَيْفَ يتَصَوَّرُ مَا لَيْسَ لَهُ صُورَةٌ وَلأَنَّهُ لا كَيْفَ لَهُ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَا لا تُحْيطُ بِهِ الأَوْهَامُ، لِذَلِكَ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنَّ الَّذِي كَيَّفَ الْكَيْفَ لا كَيْفَ لَهُ".
وَقَوْلُنَا التَّصَوُّرُ -في هذَا الْمَوْضِعِ- يُؤَدِّي إِلى الْحُكْمِ غَلَطًا لأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ قِياسُ شَىْءٍ لَمْ تَرَهُ بِشَىْءٍ رَأيْتَهُ وَأَنْتَ أَيُّها الإِنْسَانُ مَا رَأَيْتَ إِلاَّ الْمَخْلُوقاتِ فَإِذَا أَرَدْتَ أنْ تَتَصَوَّرَ شَيْئًا فََيَذْهَبُ بِكَ الْوَهْمُ إلى قياسِ مَا لَمْ تَرَ عَلَى مَا رَأَيْتَ وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعالى لا يَجُوزُ أَنْ يُقاسَ بِالْمَخْلُوقاتِ، لِذَلِكَ التَّصَوُّرُ يُؤَدِّي بِكَ إلى الْحُكْمِ غَلَطًا عَلَى الأشْياءِ، واللهُ تباركَ وتعالى لَمْ نَرَهُ، فإِذا أرادَ تَصَوُّرُنا أنْ يَنْصَرِفَ إلى تَصَوُّرِ اللهِ تعالى فَهَذَا يُؤدي إلى الغَلَطِ يُؤدِّي إلى حُكْمِ الْوَهْمِ وَنَحْنُ لَسْنَا مُكَلَّفينَ بِاتِّبَاعِ الْوَهْم بَلْ مُكَلَّفينَ بِاتِّباعِ الشَّرْعِ، والقُرْءانُ أَثْبَتَ أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لا تُدْرِكُهُ الأوْهامُ، فَقَالَ تعالى:
} لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ { [الأنعام، 103] أَيْ لا تُحِيطُ بِهِ الأَوْهَامُ. وَقالَ تعالى: } وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى { [النَّجْم، 42] أَيْ إِلَيْهِ تَنْتَهي أَفْكارُ العِبَادِ فَلا تَصِِلُ إِليْهِ كَمَا فَسَّرَهَا أَقْرَأُ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَالتَّابِعِيُّ الْوَلِيُّ الْمَشَهُورُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي نُعْم، فَقَالَ أُبَيٌّ في تَفْسِيرِهَا "إِلَيْهِ تَنْتَهي أَفْكارُ العِبادِ، وَلا تَصِلُ إِِليْهِ" اهـ وَقَالَ ابنُ أبي نُعْم في تَفْسِيرِهَا "إليهِ يَنْتَهِي فِكْرُ مَنْ تَفَكَّر". هَذَا الَّذي أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ، وَهَذا الَّذي يَقْبَلُهُ العَقْلُ، لأنَّ العَقْلَ شاهِدٌ لِلشَّرْعِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ اللهُ تعالى هَدَاهُمْ لِلْمَعاني الَّتي تُوافِقُ الشَّرْعَ والعَقْلَ، أمَّا أُولئِكَ الَّذِينَ لا تَقْبَلُ عُقُولُهُمْ إِلا أَنْ يَتَصَوَّرُوا اللهَ فَمَحْرومونَ مِنْ هَذا.
روَى البَيْهَقِيُّ عَنِ الإِمامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قالَ
: مَنْ انْتَهَضَ لِمَعْرِفَةِ مُدَبِّرِهِِ فَاطْمَأَنَّ إِلى مَوْجُودٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ فِكْرُهُ فَهْوَ مُشَبِّهٌ ، وَإِنْ اطْمَأَنَّ إِلى الْعَدَمِ الصِّرْفِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ ، وَإِنْ اطْمَأَنَّ إِلى مَوْجُودٍ وَاعْتَرَفَ بِالعَجْزِ عَنْ إِدْراكِهِ فَهُوَ مُوَحِّدٌ.
قال الامام الغزالى :
لا تصح العبادة إلا بعد معرفة المعبود
قالَ الإِمامُ أَبُو جَعْفََََََرٍ الطَحاوِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ في بَيانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَماعَةِ :
وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعانِي البَشَرِ فَقَدْ كَفَر.