بسم الله الرحمن الرحيم
تَفَكَّرُوا في الْخَلْقِ وَلا تَفَكَّرُوا في الْخَالِقِ
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا فِكْرَةَ في الرَّبِّ". رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الأَنْصَارِيِ، مَعْنَاهُ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ لا تُطْلَبُ بِالتَّصَوُّرِ وَلا بِالتَّوَهُّمِ لأَنَّ حُكْمَ الْوَهْمِ يُؤَدِّي إِلى الْغَلَطِ. بَعْضُ الْجُهَّالِ مُصيبَتُهُم أَنَّهُمْ لا يَقْبَلونَ أَنْ يَعْتَقِدُوا بِوجُودِ اللهِ تعالى دُونَ أَنْ يَتَصَوَّرُوهُ، يَقُولُونَ كَيْفَ نَعتَقِدُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ دُونَ أَنْ نَتَصَوَّرَهُ؟ هَؤُلاءِ يُقالُ لَهُمْ اللهُ تباركَ وتعالى لا يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّصوُّرِ، لأَنَّ اللهَ لَيْسَ شَيئًا يُتَصَوَّرُ، لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُصَوِّرٍ صَوَّرَهُ عَلَى شَكْلٍ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ اللهُ تعالى الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَلا خَالِقَ وَلا مُصَوِّرَ لَهُ، فَالْمُتَصَوَّرُ مَخْلُوقٌ، وَالْخَاطِرُ مَخْلُوقٌ، وَالتَّفَكُّرُ مَخْلُوقٌ، وَكُلُّ مَا يَتَصَوَّرُهُ الإنْسَانُ بِقَلْبِهِ مِنْ صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ لأَشْيَاءَ رَآهَا أَوْ لَمْ يَرَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ، الْقَمَرُ رَأيْتَهُ فَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ فَتَصَوُّرُكَ مَخْلُوقٌ لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ وَهُوَ الْقَمَرُ مَخْلُوقٌ، وَالْعَرْشُ لَمْ تَرَهُ فَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ فَتَصَوُّرُكَ مَخْلُوقٌ لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ وَهُوَ الْعَرْشُ مَخْلُوقٌ. أَمَّا اللهُ تعالى فَلَيْسَ مَخْلُوقًا، لِذَلِكَ مَهْمَا أَتْعَبَ الإنْسَانُ فِكْرَهُ لِيتَصَوَّرَ اللهَ بِزَعْمِهِ فَلَنْ يَصِلَ إِلى نَتِيجَةٍ صَحِيحَةٍ، لأَنَّهُ لا صُورَةَ لَهُ فَكَيْفَ يتَصَوَّرُ مَا لَيْسَ لَهُ صُورَةٌ وَلأَنَّهُ لا كَيْفَ لَهُ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَا لا تُحْيطُ بِهِ الأَوْهَامُ، لِذَلِكَ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنَّ الَّذِي كَيَّفَ الْكَيْفَ لا كَيْفَ لَهُ".
وَقَوْلُنَا التَّصَوُّرُ -في هذَا الْمَوْضِعِ- يُؤَدِّي إِلى الْحُكْمِ غَلَطًا لأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ قِياسُ شَىْءٍ لَمْ تَرَهُ بِشَىْءٍ رَأيْتَهُ وَأَنْتَ أَيُّها الإِنْسَانُ مَا رَأَيْتَ إِلاَّ الْمَخْلُوقاتِ فَإِذَا أَرَدْتَ أنْ تَتَصَوَّرَ شَيْئًا فََيَذْهَبُ بِكَ الْوَهْمُ إلى قياسِ مَا لَمْ تَرَ عَلَى مَا رَأَيْتَ وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعالى لا يَجُوزُ أَنْ يُقاسَ بِالْمَخْلُوقاتِ، لِذَلِكَ التَّصَوُّرُ يُؤَدِّي بِكَ إلى الْحُكْمِ غَلَطًا عَلَى الأشْياءِ، واللهُ تباركَ وتعالى لَمْ نَرَهُ، فإِذا أرادَ تَصَوُّرُنا أنْ يَنْصَرِفَ إلى تَصَوُّرِ اللهِ تعالى فَهَذَا يُؤدي إلى الغَلَطِ يُؤدِّي إلى حُكْمِ الْوَهْمِ وَنَحْنُ لَسْنَا مُكَلَّفينَ بِاتِّبَاعِ الْوَهْم بَلْ مُكَلَّفينَ بِاتِّباعِ الشَّرْعِ، والقُرْءانُ أَثْبَتَ أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لا تُدْرِكُهُ الأوْهامُ، فَقَالَ تعالى: } لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ { [الأنعام، 103] أَيْ لا تُحِيطُ بِهِ الأَوْهَامُ. وَقالَ تعالى: } وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى { [النَّجْم، 42] أَيْ إِلَيْهِ تَنْتَهي أَفْكارُ العِبَادِ فَلا تَصِِلُ إِليْهِ كَمَا فَسَّرَهَا أَقْرَأُ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَالتَّابِعِيُّ الْوَلِيُّ الْمَشَهُورُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي نُعْم، فَقَالَ أُبَيٌّ في تَفْسِيرِهَا "إِلَيْهِ تَنْتَهي أَفْكارُ العِبادِ، وَلا تَصِلُ إِِليْهِ" اهـ وَقَالَ ابنُ أبي نُعْم في تَفْسِيرِهَا "إليهِ يَنْتَهِي فِكْرُ مَنْ تَفَكَّر". هَذَا الَّذي أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ، وَهَذا الَّذي يَقْبَلُهُ العَقْلُ، لأنَّ العَقْلَ شاهِدٌ لِلشَّرْعِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ اللهُ تعالى هَدَاهُمْ لِلْمَعاني الَّتي تُوافِقُ الشَّرْعَ والعَقْلَ، أمَّا أُولئِكَ الَّذِينَ لا تَقْبَلُ عُقُولُهُمْ إِلا أَنْ يَتَصَوَّرُوا اللهَ فَمَحْرومونَ مِنْ هَذا، مَحْرُومُونَ مِنَ التَّفَكُّرِ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ تعالى بِهِ في قَوْلِهِ: } أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَىْءٍ { [سُورَةُ الأَعْراف، 185] اللهُ تعالى أَمَرَنَا بِالتَّفَكُّرِ في مَصْنُوعَاتِهِ حَتَّى نَعْرِفَ أَنَّهُ لاَ يُشْبِهُهَا، لاَ يُشْبِهُ مَصْنوعاتِهِ -مَخْلوقاتِهِ- هَذِهِ الآيةُ تأْمُرُنَا بِالتَّفَكُّر، التَّفَكُّرُ في خَلْقِ اللهِ مَطْلُوبٌ لأَنَّهُ يُقَوِّي اليَقِيِن بِوُجُودِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، أَمَّا التَّفَكُّرُ في ذَاتِ اللهِ مَمْنُوُع، لِمَاذا؟ لأَنَّهُ لاَ يُشْبِهُ شَيْئًا، كَيْفَ نُصَوِّرَهُ في نُفُوسِنَا؟ لاَ يُمْكِنُ، مَنْ تَصَوَّرَهُ حَجْمًا كَبِيِرًا كَالْعَرْشِ أَوْ أَوْسَعَ مِنَ الْعَرْشِ مَا عَرَفَهُ، وَمَنْ تَصَوَّرَهُ بِحَجْمٍ صَغِيِرٍ كَحَجْمِ الإنسان مَا عَرَفَهُ، وَمَنْ تَصَوَّرَهُ حَجْمًا مُتَحَيِّزًا في جِهَةِ فَوْقٍ مَا عَرَفَهُ، وَمَنْ تَصَوَّرَهُ حَجْمًا مُتَحَيِّزًا في جِهَةِ تَحَتْ مَا عَرَفَهُ، ومَنْ تَصَوَّرَهُ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِجَمِيِعِ الْجِهَاتِ بِحَيْثُ تَكُوُنُ جَمِيعُ الْجِهَاتِ الْعَرْشُ وَالأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ كُلُّها في دَاخِلِهِ مَا عَرَفَهُ، لِذَلِكَ حَرَامٌ عَليْنَا أَنْ نَتَفَكَّرَ في ذَاتِ اللهِ لأَنَّنَا لاَ نَسْتَطيعُ أَنْ نتَصَوَّرَهُ لأَنَّهُ لاَ يُشْبِهُ شَيئًا، إِنَّمَا نَتَفَكَّرُ في مَخْلُوقَاتِهِ، نَنْظُرُ في حَالِ الأَرْضِ، الأَرْضُ في الشِّتَاءِ بَارِدَةُ الْمَلْمَس، وَفي الصَّيفِ حارَّةُ الْمَلْمَس، نقولُ مَا الَّذِي جَعَلَهَا تَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلى حَال، هِيَ بِنَفْسِهَا لاَ تَفْعَلُ هَذَا، بَلْ لَهَا فَاعِلٌ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إِلى حَال، وَكَذلِكَ السَّماءُ لَهَا حَالاَتٌ مُخْتَلِفةٌ، وَكذلكَ الإنسانُ، وَكذلِكَ الأشْجارُ، وَكَذلِكَ النَّباتاتُ تَتَحوَّل مِن حالٍ إِلى حال. فَلاَ بُدَّ لَهَا مِن مُحَوِّلٍ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ، كَمَا أَنَّهُ لا بُدَّ لَهَا مِن خاَلِقٍ أَخْرَجَهَا مِنَ العَدَمِ إِلى الوجود. لِهَذَا أُمِرْنَا بِالتَّفَكُّرِ في خَلْقِ الله، بِهَذَا الفَهْمِ بِهَذَا التَّفَكُّرِ يَصِلُ إِلى هَذَا، لِذَلِكَ اللهُ أَمَرَنَا بِالتَّفَكُّرِ في خَلْقِهِ، أَمَّا التَّفَكُّر في ذَاتِهِ -أَيْ حَقيقَتِهِ- مُنِعْنَا عَنْهُ، نُهِينا عنه، لأَنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُصَوِّرَ الله لاَ يَصِلُ إِلى نَتِيجَةٍ صَحِيحَةٍ، لِذَلِكَ نُهِينَا عَنِ التَّفَكُّرِ في ذَاتِ اللهِ، في حَقيقةِ اللهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ "تَفَكَّرُوا في كُلِّ شَىْءٍ وَلا تَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ".
كُلُّ الأَئِمَّةِ مِنَ الْصَّحَابَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُم يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ وَأَنَّ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثَ الَّتِي تُوهِمُ ظَوَاهِرُهَا خِلافَ ذَلِكَ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا تِلْكَ الْظَّوَاهِرَ لِذَلِكَ قَالَ الإمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الْطَّحَاوِيُّ الَّذِي كَانَ في الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ في عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمينَ عَنِ اللهِ: "تَعَالى -أَيِ اللهِ- عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ الْسِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ"، مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَجْمًا لأَنَّ الْمَحْدُودَ في اللُّغَةِ وَعِنْدَ عُلَمَاءِ الْشَّرْعِ مَا لَهُ حَجْمٌ صَغُرَ أَوْ كَبُرَ. وَالْغَايَاتُ هِيَ النِّهَايَاتُ وَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الأَحْجَامِ. وَالأَعْضَاءُ هِيَ الأَجْزَاءُ الْكَبِيرَةُ كَالْرَّأْسِ وَالْيَدَيْنِ وَالْرِّجَْلَيْنِ. وَالأَرْكَانُ هِيَ الْجَوانِبُ وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ. وَالأَدَوَاتُ أيِ الأَجْزَاءُ الصَّغِيرَةُ كَالأَنْفِ وَالْشَّفَةِ وَالأَصَابِعِ وَاللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَوْلُهُ "لا تَحْويهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ" أَيْ لا يُوصَفُ اللهُ بِأَنَّهُ تُحِيطُ بِهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَمَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ تُحِيطُ بِهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ، بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ في جِهَةِ فَوْقٍ وَبَعْضُهَا في جِهَةِ تَحَت وَبَعْضُهَا في جِهَةِ الشَّمَالِ وَبَعْضُهَا في جِهَةِ الْجَنُوبِ وَبَعْضُهَا في جِهَةِ الشَّرْقِ وَبَعْضُهَا في جِهَةِ الْغَرْبِ أَمَّا اللهُ تعالى فَلَيْسَ مُتَحَيِّزًا في جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْسِّتِّ، وَعَلَى هَذَا كَانَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ شَذَّ عَنْ جُمْهُوِرِ الأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُمُ السَّوَادُ الأَعْظَمُ الَّذي وَرَدَ في الْحَدِيثِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ في الْعَقيدةِ بِدْعَةَ ضَلالَةٍ.