تنفّس صبحها وهي تشقشق عينيها بصعوبة.. كانت تتهجى بقايا حلم.. الشمس تستقر على حدِّها الشرقي، وتقدم لام إبراهيم خيوطها الذهبية من نافذة صغيرة في جدار منزلها الصغير.. تدعك عينيها بقوة، لكن بقايا الحلم تتراءى لها وتتساءل: معقول!؟ ثم تنفي (هذه المعقول) بشدة: هذا مستحيل.
بلا تأنٍ تصيح كالمذهولة: لكن الضجيج مستمر وأنا مستيقظة!؟ لا ادري أأنا نائمة ام ...؟ تفقدت نفسها أكثر من مرة.. ذهبت إلى المرآة الصغيرة المزروعة بالحائط من أمد بعيد.. تأكدت أن عينيها مفتوحتان.. سعلت مرات.. حركت رأسها يمنة ويسرة.. ابتعدت عن المرآة..
وتخاطب نفسها: يا أم إبراهيم ما الذي حصل لك، أنت مستيقظة وبكامل وعيك.. الحلم غاب ببزوغ الشمس.. لكن ما هذا الضجيج؟ معقول أن يظل من الحلم بقايا عالقة بجدار اليقظة؟ وضعت سبابتيها في أذنيها وحركتهما بقوة لتبعد الضجيج منهما.. لكن..
خافت كثيرا وهي تسرع إلى الباب وتفتحه قليلا قليلا.. كان الضجيج يعلو شيئا فشيئا إلى أن غرقت به تماما.. كانت أم إبراهيم مذعورة وبالكاد تستقر عيناها وتكفّان عن الرمش.. كانت فضولية وهي تتطاول بعنقها لترى ماذا يجري بالخارج.. منذ كانت في هذا الحي وهي مسكونة بتفقد قبة الضريح، ومعاينة المئذنتين القديمتين، والتحديق بمن يأتي إلى المسجد الذي يضم هذا الضريح..
أم إبراهيم تلطم خديها حين لم تشاهد القبة في مكانها المعهود.. تفتح الباب على اتساعه.. تلطم مرة أخرى وهي ترى جدران المسجد والقبة مهشمة حول الضريح..
ما الذي جرى؟ كل ذلك تم وأنا نائمة؟! القبر يعانق السماء، الجرافات وحوش مفترسة، جائحة، تنهش بمخالبها كل شيء تصادفه حول القبر.. هذه مؤامرة نطقت أم إبراهيم.
نزلت دمعة من عينيها: معقول يا جعفر يا أبا المساكين تتكشف هكذا؟! أين الغطاء الأخضر؟ أين الشبك؟.. تقدمتْ أم إبراهيم خطوات.. اقتربت من القبر: هذه أول مرة أراك فيها والريح تلفك من كل جهة، ماذا سيفعلون بك؟ سيقتلعونك من الجذور؟ أنت مستهدف أيها الجار؟!
أسرعت في خطوها.. هجمت على القبر.. ابتعد الناس والجرافة حين بدأت أم إبراهيم تدور حول القبر ودموعها تتقاطر كحبات مسبحة، وتمسحت بما تبقى من القبر.. القفص الحديدي الذي وضعه العمال يثير الخوف.
جلست أم إبراهيم عند زاوية القبر الغربية وأسندت ظهرها إليه.. راحت تتأمل الجميع وهي تُنقّل نظرها ما بين السماء والأرض.. وجهها قطعة من غضب.. وفي التقاطيع الظاهرة أسئلة لحوحة.. وفي نظراتها لوم وضياع.. من رآها تلك الساعة أخذه شعور بأنها جُنتْ.. حدّثت نفسها: ليقولوا ما يقولون، أنا جارته القديمة ومن حقي أن أقف إلى جانبه في هذه الشدّة.. شبح غفوة يهجم على عينيها، وبالكاد تفتحهما.. رأسها مدلىً على صدرها.. يداها متراخيتان وانسدلا تدريجيا إلى جنبيها..
بسمة عابرة ـ كالتي نراها بين شفاه الأطفال حين ينامون ـ تقذفها أم إبراهيم إلى الوجوه التي طوقتها.. كانت تتمتم: يا ولي الله آتيك بلحافي.. ثوب المرحوم زوجي ما زلت احتفظ به.. لا بأس يا ولي الله أنا جارتك وحقك عليّ.... كان يبتسم لها ويطبطب على ظهرها.. يختفي تدريجيا..
خرجت من غفوتها مذعورة.. الضجيج يعلو.. تنادي: أين ذهبت يا ولي الله؟ تقف والدهشة تستولي عليها.. تتململ: يا ولي الله.. تقوم بسرعة .. تتعثر فتسقط..
يا ساتر، يا ساتر: تنطلق حناجر الناس.. جمع كبير يتفحص المشهد.. مندهشون.. متعاطفون.. ابتسمت لهم أم إبراهيم ثم تمسحت بالقبر وهي تداري دمعة، وتقول راجية: غيروا ما شئتم لكن دعوا لنا هذه (الشروش).. دعوها حتى لا تموت الشجرة..
عادت إلى دارها وهي تتلفت.. الضجيج يعلو وهي تردد: زمان جديد والساتر الله.