دخلت عليه بجسد ممشوق القوام وبحركات إيقاعية منتظمة وبصوت خفيض ، بينما هو في المرسم يملي بياض لوحته بألوان زاهية، متفائلا ، وعدها سيفاتح أهله بخطبتها ، كادت أن تطير من الفرح ، اقتنصت قبله ساخنة ، همّت به لتعانقه ، بيد إن دخول زميلاتها حالت دون ذلك . كان طويل القامة ، رقيق العود ، فنانا، موهوبا، وسيما،ذا حس مرهف ونظراته الخجولة، بادر بمفاتحة أبيه أردف الأب قائلا بصوت أجش :
- بابا عندك بنات عمك ، تريد أن تجعلني أضحوكة بين أعمامك... بنت من الكلية..
(سافرة )..لست ادري من تكون ،امتعض الأب ، احمر وجهه ، أنثال العرق على جبينه ... تشظت صرخات احمد دون دمع ، رفض الأب هذا الأمر بقوه جملة وتفصيلا ، خرج احمد باتجاه الشاطئ حيث كان معتادا ، ترتعد فرائضه ، يستشيط حنقا ،تنفس ملء رئتيه بقوة وبألم مكبوت يجتر تفاصيل الحكاية ، كل شيء قد تغير عما كان ، ترك الكلية، ساءت حالته الصحية والنفسية ، ما عادت تلك البشاشة والتفاؤل مرسوما على محياه ، صاحبه ذهول ، شرود ذهني ثم تسكع في الشوارع .بالغ الأب في قسوته، احتجزه في البيت ذريعة بان تصرفاته مشينة تسيء لمكانتهم الاجتماعية وسمعتهم في الناحية ، ازدادت حالته سوءً ، عرضوه على كثير من الأطباء إلا إن صدمته كانت اشد وقعا عليه من أي عقاقير أو مسكنات ، تعاطف الأخ الأكبر الميسور الحال مع حالته المأساوية ، اصطحبه معه إلى البيت هيأ له غرفة خاصة ، لكن سوء الحظ كان ملازما له ، حيث كانت زوجة الأخ المتسلطة وعنجهيتها أكثر قسوة من أبيه حتى وصل بها الأمر إلى ضربه مستغلة ضعف جسده الهزيل الآخذ بالذبول ، هرب من البيت ولم يكن له مكانا ثابتا تارة في الشارع والمساجد وتارة أخرى على الشاطئ الذي طالما كان يأوي إليه وربما سيكون مثواه الأخير ، كان هادئاً تماما معبرا بكل أنواع الصمت ، صمت أليم ، صمت متسائل ،صمت مشوش غير مفهوم ، صمت ساخر ، صمت حزين، صمت مكسور ، صمت مأساوي .
يحبه الناس في ماضيه وحاضره، فهو يدخل إلى الحلاق كالآخرين ، لا يهتم إلا بمظهر نصفه العلوي، يرتب شعره ويحلق ذقنه على أكمل وجه ، بيد إن نصفه الآخر ، ثوبا رثا قصيرا بأزرار مقطعه !! ؟؟ ... لعله يرى صورة حبيبته في وجهه التي كانت تطيل النظر إليه ، لا يبالي الحر والقر، راح احمد يطيل التأمل صامتا مياه الشاطئ ، لم يبقى لديه شيئا من عدة الرسم سوى قلما وبعض وريقات قد دسها في جيبه يملي بياضها، عينان ،انف ، فم ، شعر مسترسل وخطوطا سوداويه حزينة ...