باقة الورود
اجتمعت ثلاث باقات من الورود ذات صباح مشمس ومشرق ..تحدثت كل واحدة منهن عن مصيرها الذي ترجوه وتتمناه..فقالت الباقة الأولى: أنا لوني لون الأرجوان والأقحوان ..لا أكون إلا لعاشقين أصاب سهم الحب قلبيهما ..وساد الهوى على أفكارهما ..هو سيهديني لها.. فغيابه قد طال واليوم قد حان موعد اللقاء.. فتقول العاشقة بدلال : يا أيها الساكن في ثنايا الفؤاد.. أتسلو حبيباً أصابه ظمأ حبك منذ رحلت عنه .. ووهن حاله وضعف بريق عينيه.. منذ غاب طيفك عن ناظريه...أهكذا يكون حفظ العهد الذي اتفقنا عليه؟؟؟...
فيقول لها: ظروف عملي قيدتني وسلبت مني لحظات الحب والهيام..ولكنك محفورة في ثنايا قلبي لا تزول مكانتك ولا تختفي مهما فرقتنا الأيام... وهذه باقة من الورود أهديها لكِ لعلها تشفع لي وتجعلك تغفرين لي طول ابتعادي وقلة سؤالي..
فتستقبلني العاشقة بابتسامه مرحة وتحتضنني برقة وشغف.. فيمضي العاشقان في طريقهما يرويان لبعضهما أعذب وأرق الكلام..
قالت الباقة الثانية: أنا لوني لون الصفاء والنقاء .. ورودي بيضاء وحمراء .. لا أكون إلا باقة أمل تمنحها زوجة لزوجها المريض بداء عضال.. فتُلقي عليه قبلة وتقول له: فداك روحي ونفسي يا حبيباه .. هذه الباقة لك تدعو معي وترجو لك الشفاء والخلاص من هذا العذاب .. فتطفو ابتسامة حزينة على ذلك الوجه الذي أجهده المرض ويقول لها سلمت يمناك يا مليكة القلب والروح والوجدان..
قالت الباقة الثالثة : أنا لوني لون الحياة والابتهاج .. ورودي ملونة تحمل من كل رياض زهرة .. لا أكون إلا هدية يهديها صديق لصديقه الوفي لأجل تقديم اعتذاره له من بعد أن كادت قلعة الصداقة بينهما أن تنهار وتتأثر..
وينتهي حوار هذه الباقات باقتراب ثلاثة أشخاص من مكان بيع الورود... فيأتي الأول ولهفة اللقاء والاشتياق تفضح عينيه فيطلب باقة بألوان الأرجوان والأقحوان ويسجل على بطاقة الباقة بضع كلمات يؤكد فيها لحبيبة القلب على دوام العهد وعدم الانقطاع.. ومن ثم تأتي امرأة شاحبة الوجه وتطلب على عجالة باقة تزينها ورود بيضاء وحمراء وتسجل عليها أمنيات الشفاء لزوجها المريض .. أما الثالث فهو فتى في ريعان الشباب .. يطلب باقة ورودها منتقاة ويسجل كلمات تؤكد على عمق الصداقة التي تجمعه بصديقه العزيز...
وهكذا تمضي كل باقة إلى مصيرها الذي كانت تتمناه...
لم يكن الأمر صدفة .. بل كان قدراً نسج مصير هذه الباقات .. حيث أبى أن يكتب قصة افتراقهن وقادهن للاجتماع من جديد... ولكن مكان التقائهن هذه المرة كان في حافلة القمامة .. التي أتت بهن من أماكن متفرقة.. كانت رائحة العفن والقاذورات تطفو على رائحة الورود التي أصبحت الآن في أسوأ حال.. كانت الدهشة والحزن والتعاسة تغمرهن .. وبعد مرور عدة دقائق ..قصت كل واحدة منهن ما حدث معها من أخبار...
فقالت الأولى لرفيقاتها: جاء العاشق إلى محبوبته ..والشوق يأسره والاشتياق يسكنه .. مقدماً لها كافة اعتذاراته لغيابه الذي طال.. وقطع بينهما حبل الوصال.. وقال لها: تأخرت عليكِ يا حبيبة القلب.. هذه باقتي ..أعرف أنك تحبين ألوانها .. أقدمها لكِ عسى أن تكون كافية للحصول على عفوك عن طول غيابي وقلة سؤالي...
فنظرت إليه وعلامات القلق ترتسم بين عينيها وقالت بصوت مرتجف: وماذا أفعل أنا لتعفو عني؟
قال: أعفو عنكِ؟!.. وماذا فعلتِ أنتِ .. أنا من طال غيابه لا أنتِ..
قالت: هذا صحيح.. ولكني..
فقاطعها بحزم: ولكنكِ ماذا؟؟
قالت : أنا مخطوبة الآن ..
صُعق العاشق والدهشة والحيرة تسيطران عليه: مخطوبة.. أأنت مخطوبة .. وأنا..أين ذهبت أنا ؟ كيف يكون ومتى كان و.. و..
قالت وعيناها تهربان سريعاً من عينيه : لم يكن الأمر ملك يدي .. التقيت به بعد رحيلك بمدة قصيرة .. ولم تكن لي طاقة على مجابهة الهوى .. فقد أحكم الحب سلطانه علينا .. وجعل قلبينا أسيران للعشق والغرام .. وما كانت لنا من حيلة أمام كل ذلك ... و..
فقال وغصة تملأ قلبه ..والدمع يكاد ينهمر من عينيه: توقفي.. لا تكملي .. أنت لم تحفظي العهد ولم ..
فقالت بتوسل ورجاء: أرجوك لا تلمني .. فأنا..
قال بغضب : اصمتي .. لا تدافعي عن نفسك... خائنة أنتِ .. والغدر مزروع في أوصالكِ .. لماذا أتيتِ اليوم إلى هنا ولبّيتِ طلبي للقائك إذن؟؟
قالت بتردد ووجل: خشيت ... خشيت أن تأتي إلى بيتي .. فيعلم خطيبي
قال مزمجراً غاضباً حانقاً: اللعنة عليكِ وعلى خطيبك.. اغربي عن وجهي لا أريد أن أراكِ .. ولا أعرفك يا خائنة.. أكرهكِ .. أكرهكِ بكل لحظة حب وهبتها لكِ .. وبكل لحظة شوق واشتياق أودعتها لكِ .. ثم سار مبتعداً عنها وكلمات الألم والحزن تخرج من بين شفتيه تروي صدمة عاشق قد شغفه حب امرأة خائنة .. وعندما انتبه إلى وجودي بين يديه ركلني بعنف وقسوة.. وهكذا وقعتُ على الرصيف إلى أن جاء عامل النظافة وألقاني في سلة المهملات..
قالت الباقة الثانية: أخذتني تلك المرأة إلى غرفة زوجها في المستشفى.. وعندما وصلت وجدت سريره خالي الوفاض .. سألت عنه فقالوا:هو في غرفة العمليات وحالته خطرة جداً..
جلست تلك المرأة تبكي وتنتحب وهي تعانقني بلوعة وأسى .. مرت ثلاث ساعات حتى خرج الطبيب من غرفة العمليات .. مكفهر الوجه و منهك القوى ..
فركضت المرأة إليه وقالت ودموع عينيها تنهمر: يا حكيم ..ارحم امرأة ثكلى وبشرني بخير الأخبار..
قال لها : ليت الأمر بيدي يا سيدتي .. حاولت وبذلت قصارى جهدي ..ولكن ما لا يكون كيف يكون .. الموت مكتوب على جبين كل إنسان لا يفارقه إلا إذا سُحبت الروح منه ..
قالت والأمل يحتضر بين عينيها: يا حكيم .. قلت لك ارأف بحالي .. ولا تطلعني على سيء الأنباء..هل .. هل مات زوجي يا حكيم؟
قال: قبل بضع دقائق فاضت الروح إلى بارئها.. أنا آسف جداً ...عظم الله أجرك ..ولكن موته كان متوقعاً..
وهكذا انتثرت ورودي على أرض المستشفى بعدما سقطت تلك المرأة من هول مصيبتها .. فجاء المسعفون ونقلوها إلى غرفة أخرى.. أما أنا فبقيت مداساً لأقدام الناس حتى جاء أحدهم وألقاني في سلة المهملات ..
قالت الباقة الثالثة: أخذني الصديق وانطلق بي نحو بيت صديقه الوفي.. طالباً منه العفو والسماح على ما تسبب به من خلاف كدر صفو صداقتهما .. وإذ بصديقه يلقاه بوجه عبوس مكتئب ..ويرفض هديته ويقول له أسوأ الكلام ..
قال له: لماذا تفعل ذلك؟.. وأنا جئت إليك اليوم طالباً السماح بعدما اكتشفت حقيقة سوء الفهم الذي حدث واتهمتك بأنك مسؤول عنه ..
قال بغضب واضح: وأنا أرفض اعتذارك ..منذ اليوم لا أريد أن أراك ولا أعرفك..
فقال الصديق بحزن: أتتنكر لكل سنوات صداقتنا وتمحقها بسبب لحظة خلاف حدثت بيننا..
قال: اذهب عني .. فما عدت قادراً على التعامل مع من أساء إلي واتهمني بشيء لم أقترفه
فقال: ولكني جئت اليوم طالباً العفو من أهل الكرم وأنا أعلم أنك أهل لذلك..و..
فقاطعه بشدة: ما عاد الكرم عنوان أحد في هذا الزمان .. لا أريد أن أعرفك ولا أن أتعامل معك..ألا تفهم يا هذا..؟ ومن ثم دخل إلى بيته وأغلق الباب بعنف..
وهكذا عاد الصاحب مكسور الخاطر .. يلوم نفسه على خطئه ويلوم صديقه الذي رفض مسامحته ..ومن ثم ألقاني في سلة القمامة وانتهى حالي إلى هذا المآل..
فقالت الباقة الثانية: ما بال أهل هذا الزمان قد تغيرت أحوالهم..وأصبح اللؤم عنوانهم .. والتنكر لبعضهم البعض علامتهم البارزة... من منهم لا يرتكب الأخطاء؟.. من منهم لا يؤذي الآخرين؟.. ضاع الوفاء بين الناس ..وأصبحوا يبيعون كل ما بينهم بسبب خلاف واحد.. ضاعت المروءة بين بني البشر..
فأردفت الباقة الثالثة: وهل أهل العشق أفضل حالاً ؟؟..انظري إلى من يمنحون العهود ويسجلون الوعود .. وما أن يبتعدوا عن بعضهم البعض حتى يبحث كل منهما عن بديل.. وكأن ما كان لم يكن .. غدر وخيانة وتلاعب بالمشاعر.. استغلال وتحكم وانكسار للخواطر.. لقد أصبح الحب رخيصاً وما عاد ينبض بالصدق ولا بالوفاء...ضاع الإخلاص بين بني البشر...
وأخيراً قالت الباقة الأولى: الأنانية وحب الذات هما أصل كل خطيئة .. كل شخص يرى نفسه منزهاً عن الأخطاء..ويجد دوماً ما يبرر تصرفاته.. ولذلك يرى العيب في الآخر .. هذه الأنانية هي أصل كل داء يعيش بين الناس ..ولكن لا أحد يلتفت لذلك إلا بعد أن يتيقن من فقدانه للآخر.. حيث يسيطر عليه الندم ويتمنى لو أن ما كان لم يكن... ولكن هيهات هيهات.. لا يمكن لجرح الإحساس أن يشفى أبداً... ضاع الإيثار وضاع الصدق بين بني البشر...
وهكذا انتهى مآل تلك الباقات ... بين القاذورات والقمامة .. بينما بقي قلب العاشق يتلوع حسرة وألماً .. وقلب الزوجة ينفطر كمداً وحزناً.. وقلب الصديق يضطرم لوماً وعتاباً وأسى..