عصاه تبحث في الأرض، وتعزق الحصى يميناً وشمالاً، هذه عادة قديمة ورثها عن أبيه الذي رافقه دهرا في رحلة البحث عن الكمأة كل عام، وورثها عن جده وأسلافه الذين يصعب حصرهم..
في الصحراء تغور الأسرار تحت الرمل وتغرق في زنازن الصمت ودهاليز البِلى، ولا تكشف لك عن نفسها بسهولة..
هو يعرف ان الصحراء لا تنقاد طواعية لمن يأتيها متطفلاً.. حذِرة جداً، لذلك تُسلّط على المتطفل كلاب الشمس فتشويه وتنهشه بأنياب حِداد لاهبة وتطلي لسانه بالعطش.. فإمّا ان يمضي متحدياً إنْ كان ملك أعنة الصحراء.. أو يستسلم ويذوب تحت الرمل طعاماً لممالك الغموض..
يعرفُ تماماً صلف الصحراء لكنه ابنها الذي أرادت له أمه ان يظل مرتبطاً بها لذلك رمت سرتَه في مكان ما فيها، فأدرك من عشقه للصحراء انه ملتحم مشيمياً بجسم الصحراء بعد ان فارق رحم أمه..
انغرست العصا في كوم أمامه وغاصت في أعماقه فاندفعت جمجمة الى الهواء ثم ارتدت هابطة لتستقر بين يديه وصدره.. جفل، خاف، رماها، فعادت إليه.. أهو في حلم أم في يقظة؟ لفّتُه حيرة مذهلة.. ليس من احد حوله.. لا صوت إلا عربدة الفراغ، ولا خوف إلا من الهدوء الذي بسط دولته على المكان..
السراب يتماوج ويتلألأ فوق حصباء ممتدة غسلتها الشمس بحمامها اللاهب.. السراب إغواء لعين للظمآن.. وأنا اعرف عرائس السراب فلا اغتر بنداءات الأمل..
تهتز الجمجمة وتنطق بصوت لا ادري من أين غشّاني.. من أنت؟ رميتها بعيداً فارتدت إليه سريعاً.. السؤال هو السؤال، وهل يملك جواباً على سؤال موجهٌ من جهة خرافية الأبعاد؟ تهتز مرات وتعيد السؤال.. أيجيب من؟ هي والهواء والرمل وووو سواء بسواء.. للهواء صوت محسوس وللرمل وجود ملموس.. وليس لصوت الجمجمة مصدر حي حتى يجيب على السؤال إجابة المقتنع.. ليجرّب ويجيب والعاقبة لمن يصمد:
أنا فلان بن فلان.. له صوت ولكنه ينقذف من الصمت.. ما هذه البلوى؟
تنطلق الجمجمة عالياً وعيناه تتبعها مرعوبة.. حاول الهرب ليخلص من هذه المحنة لكن قدميه كانتا مثبتتين في الرمل.. تعود إليه الجمجمة وهي تردد: أما أنا فمن زمن سحيق قذفني
سيل الدنيا الى هذه الصحراء.. أحقاب تعقب أحقاباً على وجنتي، وأرصد على ورق الهواء وحروف الرمل أنفاس من مروا من هنا.. وأسجّل تنهيدة لهذا الفارس أو لتلك الصارخة أو لسنابك خيل أو خفاف جمال.. أنا هنا اقفز من حفرة الى طف جبل بعد ان احتملتْ عواتي الريح قبر صاحبي بعيداً عني وظللت هائمة على وجهي اروي للسارين والمدلجين ما خُط على شفتي الصحراء من أسرار، عالم لا تراه أنت يخترق مني المحجرين والحنكين والخياشيم التي تعايشتْ مع تعاقب الليل والنهار وأدمنتُ تهارش جحافل الدود فيّ من كل فجّ عميق..
تسخن الجمجمة من وترتفع حرارتها حتى لم يعد بمقدوره احتمالها فيقذفها بعيدا ويهرب.. يرتطم رأسه بالسرير ثم بزوجته التي خافت منه كثيرا.. يفتح عينيه بنظرات زائغة ويتلفت يميناً وشمالاً.. أشعة الشمس تسكب حرارتها على وجهه.. يُرسل تنهيدة طويلة وينهض من فراشه مرتعشاً.. لحقته زوجته وعلى شفتيها سؤال.. ابتسم لها وأخذها بين ذراعيه بحرارة..